تحدثنا في المقال السابق عن بعض أسباب الغفوة الروحية وذكرنا من بينها المشغولية الدائمة التي لا تترك وقتاً للعمل الروحي.
?? وحقاً أننا في عالم مشغول ... مشغول بأمور عديدة جداً. وسيظل مشغولاً إلى
نهاية هذا الدهر، وإلى أن تأتي الأبدية. الكل يدور في دوامته. والشيطان يجهز لكل إنسان الدوامة التي تتناسبه، والتي يتحرك فيها بلا توقف. ويظل يتحرك إلى أن يأتي الموت فيسحبه منها على الرغم من إرادته. وعجيب أنه رُبَّما في ساعة الموت يوجد أشخاص تشغلهم أمور أخرى عن خلاص أنفسهم. وكل منهم يحب دوامته التي يحركها، أو التي تحركه ... فمتى يستطيع العالم أن يخرج بعض الوقت من مشغولياته لكيما يجد متعته في الوجود مع اللَّه؟
?? إنَّ اللَّه ـ تبارك اسمه ـ يريدنا أن نكون معه. ولكننا للأسف لا نريد! لقد
منحنا يوماً في الأسبوع نتحرر فيه من مشغولياتنا ويكون يوماً مقدساً له. عملاً من الأعمال لا نعمل فيه سوى ما يختص بأرواحنا وأرواح غيرنا وصلتنا باللَّه ... حتى إن غفت أنفسنا طوال الأسبوع تستيقظ في هذا اليوم. ولكن هل استجاب الناس لبركة يوم الرب؟! إنهم مازالوا مشغولين حتى في هذا اليوم أيضاً. والأعمال الخاصة التي لم يستطيعوا أن يُنجزوها في أيام العمل الرسمي، يحاولون إنجازها في يوم الرب. وإن استطاعوا أن يجدوا وقتاً فراغاً، يقضونه في ملاهيهم ومتعهم وبدلاً من تسمية يوم الرب باليوم المقدس Holy Day، فإنه يغيِّرون هذا الاسم إلى Week end أي نهاية الأسبوع. وقد تكون مشغولياته وسقطاته أكثر مِمَّا في باقي أيام
الأسبوع ... وتستمر الكرة تتدحرج فيه بعيداً عن المجال الروحي.
واللَّه ـ جلَّ جلاله ـ يريد أن يقضي ولو يوماً في الأسبوع هكذا معنا، ونحن لا نستجيب. ونحن تستهوينا أمور العالم بالأكثر. يُغرينا الحديث مع الناس أكثر من الحديث مع اللَّه. أليس من العقل ومن الحكمة أن ننزع أنفسنا من الكلام الكثير مع الناس لكي نتكلَّم ولو قليلاً مع اللَّه الذي ينتظرنا. إنَّ أيَّة مشكلة طارئة مفاجئة تُقابل الإنسان، لابد أنه سيجد وقتاً للتَّصرُّف فيها. وذلك لشعوره بأهمية هذا الأمر. فهل أنت يا
أخي تشعر بأهمية حياتك الروحية وبأهمية مصيرك في الأبدية. وبأهمية الغذاء الروحي اللازم لك؟ إن شعرت بكل ذلك فلابد ستوجد وقتاً للصلاة وللتأمُّل وللقراءة الروحية وللتسبيح وللترتيل وما إلى ذلك، عندئذ ستحاول أن تنظم وقتك. وتحتفظ دائماً بالتوازن بين عملك الرسمي وواجباتك الاجتماعية، وعملك الروحي أيضاً. نظِّم وقتك ومشغولياتك إذن، حتى لا تسحبك الدوامة بعيداً عن اللَّه. وتذكَّر أن ملوك قديسين كانت أعمال المُلك وقيادة الشعب لا تشغلهم مطلقاً عن اللَّه.
?? كذلك عقل الإنسان، حسب نوعيته، يمكن أن يقرب الإنسان إلى اللَّه أو يبعده عنه. لأنه كثيراً ما يكون العقل جهازاً تنفيذياً لرغبات النفس أو لشهواتها. فإذا ما انحرفت النفس، ما أسهل أن تجذب العقل خلفها، كخادم مطيع لها يُبرِّر لها سلوكها الخاطئ. وتشتهي النفس شهوة منحرفة، أو تود أن تستريح بعيداً عن تعب الجهاد الروحي وهنا نجد العقل يُقدِّم لها ما تشاء من التبريرات، ومن الأدلة والبراهين لكي يُقنعها بصحة ما تشتهيه، وحتى لا يثور الضمير على خطأ يود إبعاده عنها. عجيب أن يكون العقل أحياناً واقعاً تحت تأثير الآخرين، أو تحت نير الشهوة. أو أن الفهم الخاطئ قد يدفع العقل أحياناً إلى المجاملة الخاطئة أو المنفعة
المادية أو إلى تغيير الحقائق للوصول إلى هدف ما.
?? إن العقل قد يقود أحياناً إلى الخطأ، أو يقدم للخطأ أعذاراً. وربما يحاول
الضمير أن يوقظ الإنسان، بينما يعمل العقل على إنامته وتخديره. فيقول مثلاً عن الخطأ: هذا الأمر ما كنت أقصده إطلاقاً. لقد أتى عفواً، والنية غير متوفرة فيه! أو هذه الخطية حدثت على الرغم منه. الضغطات الخارجية كانت شديدة جداً، لا يستطيع أحد الفكاك منها! ويمكن أن تدخل هذه الأمور من الأعمال غير الإرادية. وهذا الخطأ تبرره الظروف، وذاك تشفع فيه النية الحميدة والقصد السليم! وذلك الموضوع طبيعى جداً يحدث لكل أحد! لماذا ندع الضمير يوبخنا عليه؟! ولاشك أن التدقيق الزائد فى الحكم على أمثال هذا الأمر غير جائز. إنه يقودنا إلى الوسوسة ويفقدنا
بساطتنا! وهكذا إلى ما لا ينتهى من التبريرات.
حقاً ما أسهل أن ينحرف العقل، وينحاز إلى ذاته، ويشحذ كل طاقاته لمنح سلام زائف للنفس. والفضيلة التي تُقصِّر فيها، ما أبسط أن يقول أنها فوق إمكانياتي، أو الظروف ما لم تساعد عليه! وقد يكون العقل مشحوناً بأفكار تقدمها البيئة أو التقاليد. أوبأفكار استقاها من الكتب أو من الأصدقاء ... وبهذا يكون فكره بهذا الوضع سبباً للضلالة إن كان يُساعد على الخطية بما يُبرِّرها، أو يُخدِّر الضمير بما يُقدِّمه من
أعذار.
?? وخيال العقل الخصيب قد يُساعد على سقوط الإنسان. إذ تشتهي النفس شهوة،
فيتناولها العقل، ويُقدِّم لها قصصاً لا تنتهي تدور حول صور لتحقيق هذه الشهوة. وما أن تنتهي صورة حتى يقدم لصورة أخرى. ونفسك كأنها نائمة أو مُخدَّرة تسرح فيما يُقدمه العقل من حكايات تشبع شهواتها ... إلى أن يستيقظ الإنسان أخيراً فيجد أن العقل قد سرح به في مجالات لا تنتهي ... وما أعجب سرحات العقل التي يُقدِّمها في أحلام اليقظة. وفي خطية المجد الباطل مثلاً، ما أسهل أن يؤلِّف العقل روايات طويلة عن أمجاد يصل إليها الإنسان، ويرفعه بها إلى أعلى مستوى. وتظل النفس مخدَّرة مع العقل، سارحة في خيال إلى أن يوقظها طارئ فتستيقظ. وهنا ليست مشكلة
الإنسان أنه لا يستيطع أن يستيقظ من أحلامه ... بل مشكلته أنه لا يريد أن يستيقظ!! إنه سعيد بأفكاره سعيد بأحلامه وأوهامه، سعيد بإشباع العقل بشهواته! وما أكثر مواهب العقل للتأليف والتخطيط.
?? إنَّ البيئة أيضاً، وبخاصة الأصدقاء والمعارف والأقرباء قد يشجعون النفس على رغبات معينة. والشخص القوي لا تجرفه البيئة بل يقاومها. أمَّا الضعيف فرُبَّما يُساير الجو. إن سمكة صغيرة يمكنها أن تقاوم التيار، لأنَّ فيها حياة ولها إرادة. بينما جزع شجرة ضخم يجرفه التيار على الرغم من ضخامته، لأنه ليس حي ولا إرادة له. حقاً ما أخطر البيئة والشهوة على الإنسان الضعيف. كُلَّما تقترب إليه محبة الحق ترجع البيئة فتضعفها.