الجدية هي أهم مايتميز به الإنسان الناجح وعدم الجدية سبب أساسي في فشل غيره من الناس, فالإنسان الجاد يعرف تماما طريقه في الحياة, والوسائل التي توصله إليه ولايحيد عن ذلك يمنة ولايسرة, ويشق طريقه بكل ثبات حتي يصل إلي غايته هو كسفينة ضخمة تشق طريقها في بحر الحياة وبقوة حتي تصل إلي غايتها, وليس كقارب صغير تعصف به الأمواج والرياح في أي اتجاه.
** الإنسان الجاد يكون جادا في كل مسئولية تعهد إليه, لايهمه إن كانت المسئولية كبيرة أو صغيرة. إنما المهم عنده هو الجدية في أداء هذه المسئولية واتقانها كالممثل الذي يتقن دوره في أية رواية مهما كان الدور صغيرا, وهكذا قد يكون بطل الرواية هو خادما أو بوابا فيها, وليس مديرا أو ملكا. ومثال آخر هو لاعب الكرة الذي يهمه أداء دوره في انجاح الفريق متعاونا مع باقي اللاعبين, أيا كان دوره, وبهذا إن كان كل عضو في المجتمع يؤدي دوره بجدية, فسينجح هذا المجتمع بلاشك.
** نري هذه الجدية في العمل: فالتلميذ الجاد يهتم بمذاكرة دروسه من أول العام وتكون له فرصة للمراجعة مرة وأخري حتي تثبت المعلومات في ذهنه ولاينسي منها شيئا. ولايكون خائفا أو مضطربا في وقت الامتحان, ولايكون هدفه مجرد النجاح, بل التفوق, بعكس الطالب غير الجاد الذي يهمل دروسه الي نهاية العام ثم لايجد الوقت كافيا لاستيعابها... كذلك العامل أو الصانع الذي يتميز بالجدية. فإن جديته تؤدي إلي تميزه في إنتاجه. ويضيف إلي ذلك دقته في المواعيد, واعتدال سعر ماينتجه, وحسن تعاونه وبهذا كله ينجح في عمله وتروج بضاعته.
** والجدية من أهم ماتتميز به الحياة العسكرية: فالرجل العسكري هو إنسان جاد في كل شيء. في مواعيد صحوه, وفي انتظامه في الطوابير, وفي مشيته المنتظمة وفي ثباته أثناء كلامه بحيث لايحرك يديه وهو يتحدث ولايلوح بهما. وهو جاد في كل مايتعلق بالضبط والربط, وجاد في احترامه لمبدأ الطاعة والتسلل القيادي وبالتالي تنتشر الجدية في حياته كلها, وتتدرج إلي العمليات العسكرية أيضا, بل أيضا في أعماله الإدارية يكون في ملء الجدية ويثق الناس به.
** والخطيب الجاد هو الذي يحضر كلمته, ويرتبها وينسقها. ويجهد في جمع معلوماتها وفي حسن صياغتها, بحيث تكون سهلة في الفهم وفي القبول.. أما غير الجاد فقد يتكلم ارتجالا وبلا ترتيب, وتظهر أفكاره مشوشة وناقصة. وفي غير جديته, لايكون محترما لعقول السامعين.
نفس الوضع من الجدية يكون مع الكاتب أو الصحفي ومع رجال العلم أيضا ومع الأساتذة والمدرسين.
** والجدية تظهر أيضا في محيط السياسة, فعضو مجلس الشعب مثلا ـ إذا كان جادا ـ يدرك تماما أنه صار نائبا للدائرة, ينوب عن أهلها في خدمتهم وحل مشاكلهم, ويكون دائم الصلة بهم, بالاضافة إلي مشاركته في السياسة العامة للوطن, بحيث يدرس الأمور التي ستعرض علي المجلس, فإن تحدث فيها, فإنما يتحدث عن معرفة وبكلام له تقديره وتأثيره, أما العضو غير الجاد فلايهتم ولايدرس, ولايكون له صوت, وقد يتغيب بلا سبب ولايشعر أحد أنه كان عضوا في المجلس!
** وفي مجال المعارضة السياسية, فإن المعارض الجاد يحلل المواقف تحليلا دقيقا, ويشرح رأيه بطريقة موضوعية, وفي اعتراضه يقدم البدائل الإيجابية وإن وجد خيرا يمتدحه. إنه يشترك في البناء السياسي كمراقب ومحلل, والمعارضة هي جزء من النظام السياسي تظهر الرأي الآخر, ولكن في نبل وتعاون, والمعارضة الجادة لاتلعن الظلام إن وجدته إنما تضيء شمعة تنير الطريق في حكمه.
** ونحن لانقصد بالجدية في الحياة العبوسة والتزمت, أو أن يكون الإنسان الجاد بعيدا عن المرح والحياة الاجتماعية والتبسط مع الآخرين, إنما بالاضافة إلي مسئولياته الرسمية يكون لطيفا مع الآخرين, والمعني الرئيسي للجدية هوعدم التراخي أو الاهمال في أي عمل أو مسئولية, والإنسان الجاد يكون ملتزما, يحترم نفسه ومبادئه, ويحترم الكلمة التي تخرج من فمه, ويحترم الطريق الذي يسلكه.
** والإنسان الجاد يحترم عهوده مع الناس ونذوره مع الله. إذا وعد بشيء يلتزم باتمامه بمجرد كلمته ولايحتاج الأمر معه إلي صك مكتوب أو إلي شروط رسمية, بل كلمته تعتبر عهدا. فإن نذر نذرا لله يكون جادا في تنفيذه, تماما تماما كما خرج من فمه. لايحاول تغيير النذر, ولايؤجل القيام به.. ولايندم علي ماقد نذره. فالنذر هو عهد بينه وبين الله لايتراجع فيه.
** والإنسان الجاد إذا تاب يكون جادا في توبته, لايعود إلي الخطيئة مرة أخري, وإن عزم علي التوبة, لايؤجلها. ولاتكون حياته الروحية متأرجحة بين قيام وسقوط بل تكون التوبة هي نقطة تحول في حياته لايدركها التغيير.
** والإنسان الجاد إن اعترضته صعاب في طريق الخير, لايجعلها تعوقه بل ينتصر عليها. يكون الخير الذي فيه أقوي من العوائق التي تعطله, عزيمته تدفعه إلي قدام. وبالنسبة إليه العوائق ليست موانع.
إن عائق فقد البصر لم يمنع طه حسين من أن يصير عميدا للأدب في عصره, بل صار أيضا رئيسا لجامعة الإسكندرية, ثم وزيرا للتعليم.
** والإنسان الجاد لايلجأ إلي الأعذار والتبريرات يبرر بها نقصا في حياته أو تصرفه, إن الأعذار هي غطاء يغطي به المتهاونون فشلهم, إن نهر النيل لم تقو علي اعتراض طريقه ستة جنادل( تسمي خطأ بالشلالات). بل استمر في مجراه حتي وصل إلي البحر. والعصاميون الذين كونوا أنفسهم بأنفسهم, لم يعتذروا لظروفهم الاجتماعية الصعبة والشهداء لم يعتذروا لقسوة الحكام الوثنيين, بل اعترفوا بالإيمان غير مبالين بتهديد أو تخويف أو تعذيب.
** والإنسان الجاد ينمو باستمرار في حياته وفي فضائله, واضعا المثالية هدفا أمامه ليسعي إليه.
صلوا من اجلي ميرت
[center]